يبدو بأنّ ردود الأفعال الدولية ومواقف الدول والمنظمات العالمية من الجرائم والحروب المعاصرة وحروب الإبادة الجماعية تنبع من حجم ووزن الدول على خارطة العالم السياسية، سواء فيما يتعلق بنفوذها الدولي ودورها السياسي والاقتصادي في النظام العالمي ومقدار ما تعكسه تلك الدول من دور في ملفات إدارة الصراع العالمي، أو فيما يتعلق بثرواتها وموقعها السياسي والاقتصادي وما تمثّله من خزين نفطي وثروات طبيعية.
فالاعتداءات الإرهابية التي ضربت باريس وبروكسل وغيرها من المدن الأوروبية أحدثت ضجة على المستويين السياسي والأمني وكانت لها تداعيات دولية كبيرة، حتى وصل الحال بأن تكتسي أبراج العرب الشاهقة بالعلم الفرنسي تضامنا مع ضحايا التفجيرات الإرهابية.
وفي المقابل نجد بأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يتماسك عقله وأمر القيادة الجوية الأمريكية بضرب قاعدة الشعيرات السورية بـ(59) صاروخاً من طراز (توماهوك) بعد مشاهدته للأطفال والمدنيين السورين وهم يختنقون موتاً جراء السلاح الكيمياوي، على الرغم من أنّ الجاني لم تتضح ملامحه بعد.
هذا التباين في المواقف الدولية له ما يبرره على الصعيد الخارجي، إلّا أنّه يمكنه أن يغض بصره عمّا يحدث من قتل وحرب إبادة لمسلمي بورما "الروهينغا" على يد السلطات البورمية. (نعم) هناك تمايز بين الدول في الثقل السياسي والاقتصادي والموقع الجغرافي، إلّا أنّ هذا التمايز هل من الممكن أن يمتد إلى البشرية، لاسيما مع هذا الانتشار الكبير للمنظمات الأُممية والوكالات ووسائل الإعلام المعنية بحقوق الإنسان؟ ربما هناك تمايز وضعي بين البشرية وفقاً لمواطني الدول وما تمثّله تلك الدول من ثقل في الميدان العالمي، لكن لا يمكن أن يرتقي هذا التمايز إلى حدّ الوحشية التي يقتل بها مسلمي بورما من جماعة "الروهينغا" على يد السلطات البورمية.
ولماذا لا يتحرك المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية من أجل إدانة ما يحصل لهذه الجماعة من حرب وإبادة جماعية من أجل تحريك هذا الملف في الأُمّم المتحدة ومجلس الأمن، لوضع حدّ لهذه الحرب البشعة ضد الروهينغا؟ ولعلّ هناك مَن يتساءل عن الروهينغا وعن مناطق تواجدهم وعن سبب إبادتهم بهذه الجرائم الوحشية؟
مَن هي ميانمار؟
ميانمار أو جمهورية اتحاد ميانمار وتسمى أيضاً بورما، تقع في الجنوب الشرقي لقارة أسيا وعاصمتها (نايبيداو)، انفصلت عن حكومة الهند البريطانية عام 1937م نتيجة الاقتراع الذي خيّرها بالبقاء تحت الاستعمار البريطاني أم الاستقلال لتكون مستعمرة بريطانية منفصلة عن حكومة الهند البريطانية، وقد كانت واحدة من خطوط المواجهة العسكرية بين بريطانيا واليابان أبان الحرب العالمية الثانية عام 1954م، ونالت استقلالها الكامل من الاستعمار البريطاني عام 1948م. تتميز بتركيبتها السكانية المتنوّعة من حيث التركيب العرقي واللغوي والديني.
مَن هم الروهينغا؟
تُعدّ جماعة الروهينغا جماعة قومية مسلمة، تنتمي إلى عائلة الشعوب الهندية وتقطن في ولاية أراكان غربي بورما أو ميانمار، ويبلغ عددها وفقاً لإحصائية عام 2012م (800,000) روهينغي بعد عملية تطهير طويلة، يقطنون مرتفعات أركان أو ولاية راخين "وهي واحدة من أفقر الولايات" الواقعة على الساحل الغربي للبلاد. إذ تنظر إليهم الأغلبية البوذية على أنّهم مهاجرون بنغلادشيون غير شرعيين، ويُعتقد بأنّهم أسلاف تجّار مسلمين استقروا في المنطقة منذ أكثر من 1000 عام، إلّا أنّ الحكومات البورمية المتعاقبة لا تدرجهم كجماعة عرقية فعلياً، ففي عام 1982م ألغى القانون البورمي الجنسية عن الروهينغا، مما جعلهم عديمي الجنسية، ولا يُسمَح لهم بالمغادرة دون إذنٍ من الحكومة. ونتيجة لهذا، ظلّت حقوقهم في الدراسة، والعمل، والسفر، والزواج، وممارسة شعائرهم الدينية، والحصول على الخدمات الصحّية مقيّدة. فلا يمكن للروهينغا التصويت، وحتى لو نجحوا في اجتياز اختبارات المواطنة، يجب أن يُعرفوا بكونهم "مُجنسين"، بدلاً من كونهم روهينغا. وفُرضِت عليهم قيود فيما يتعلَّق بدخولهم بعض المهن مثل الطب والقانون، أو الترشح للمناصب المهمّة. ولهذا تُعدّهم الأُمّم المتحدة أكثر الأقليات اضطهاداً في العالم.
الصراع المتجدّد
يعود التمييز والقتل المنهج ضد مسلمي بورما إلى عقود من الزمن، إلّا أنّ الصراع يتجدّد بين فترة وأخرى، ويعود التصعيد الأخير ضد جماعة الروهينغا إلى أواخر العام 2016م بعد مقتل تسعة من رجال شرطة الحدود في أكتوبر/تشرين الأوّل 2016م، إذ اتهمت خلالها السلطات البورمية مقاتلين منتمين لتلك الجماعة، مما أدّى بقوات الأمن البورمية إلى شن حملة أمنية على القرى التي يعيش بها الروهينغا، وأدّى ذلك إلى حالات إعدام وقتل وتهجير واغتصاب ضد الجماعة. وتأتي هذه الحملة الأخيرة ضد الروهينغا بعدما تعرّضت بعض مراكز الشرطة وقاعدة للجيش لهجوم في 25 آب/أغسطس 2017م، مما أجبر مئات الآف (وفقاً للأُمّم المتحدة) على الفرار عبر الحدود إلى بنغلادش.
التأييد الحكومي
كانت رئيسة وزراء بورما "أون سان سو تشي"، تقول بأنّها أمل البورمين في عودة الديمقراطية، لاسيما وأن تشي عانت من تسلط الحكم العسكري "الذي وضعها تحت الإقامة الجبرية" بسبب مطالبتها بحكم ديمقراطي قبل أن تصبح مستشارة الدولة "رئيسة الحكومة" في عام 2015م. سان سو تشي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 1991م وجائزة سفير الضمير المرموقة "وهي جائزة تمنحها منظمة العدل الدولية في مجال حقوق الإنسان"، وجائزة سخاروف لحرّية الفكر من البرلمان الأوروبي، يبدو بأنّ موقفها من العنف قد تبدل كثيراً مع انتقالها في صفوف المعارضة إلى كرسي الحكم، إذ شهدت فترة توليها منصب رئاسة الحكومة العديد من عمليات التطهير العرقي بحقّ مسلمي الروهينغا. فقد كان يعول عليها كثيراً في نبذ العنف، لاسيما وأنّها تقلدت الكثير من الجوائز المشجعة للسلام والحوار. فقد رفضت (سان سو تشي) الاعتراف بإدانة هذه الجرائم التي يقوم بها الجيش البورمي ضد مسلمي بورما، ولا تعترف حكومتها بالروهينغا كجماعة عرقية، وعادةً ما تصفهم بالإرهابين. ونتيجة لذلك تطبق القوات البورمية الحصار على أماكن تواجد هذه الجماعة، وعادةً ما تمنع السلطات البورمية المنظمات الدولية ووسائل الإعلام وفرق الأُمّم المتحدة من الوصول إلى مناطق تواجد جماعة الروهينغا.
الصمت الإقليمي
ما يزيد الوضع سوءً، هو عدم قدرة دول شرق أسيا على التحرك نحو إيجاد حل لتلك الجرائم الإنسانية وطرحها أمام المجتمع الدولي؛ لكونها جرائم ضد الإنسانية وتهدد الأمن الإقليمي والتعايش السلمي لتلك الدول؛ بسبب خشيتها من استياء السلطة في ميانمار؛ لذلك تتحفظ على طرح تلك الإبادة في المؤتمرات الإقليمية. وبين هذه الخشية وصمت المجتمع الدولي وتصدّع الوحدة الإسلامية والعربية تبقى هذه الجماعة تُباد بشكل يومي لتواجه مصيرها المجهول بمفردها بعيداً عن التدخل الإقليمي والدولي والأُمّمي، ليس بسبب عدم قبول الحكومة البورمية بأي تسوية مع جماعة الروهينغا، ولكن لأنّ ميانمار، دولة صغير وفقيرة اقتصادية ولا يمكن أن تقود الدول الكبرى إلى مكاسب سياسية أو اقتصادية، فهي لا تمثل أي مصلحة (سياسية أو اقتصادية) في قاموس الدول الكبرى.
إنّ الضمير الذي حرّك ترامب في ضرب قاعدة الشعيرات، ودفع السعودية ودول الخليج وإيران للصراع على فقراء المنطقة، لاسيما في سوريا والعراق واليمن، لماذا لا يدفعهم لمساعدة أطفال وفقراء الروهينغا في ميانمار؟
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق